أشرنا إلی أن التوراة ظلت تشکل مصدر إلهام المؤرخین الأساسی، فی صناعة و اکتشاف الشعوب و الحضارات القدیمة زمنا طویلا، نظرا لندرة أو انعدام الوثائق الأخری من جهة، و للنظرة التقدیسیة التی کانت تتمتع بها
التوراة علی العموم، باعتبار أنها کتاب مقدس، ملهم من الله، من جهة أخری.
إلا أنه مع ظهور علم الآثار فی القرن التاسع عشر المیلادی، و انتشار التنقیبات الأثریة، أخذت مکانة التوراة بالهبوط، وشرع نجمها بالأفول.
لقد اهتم علماء الآثار و اللاهوتیون المسیحیون و الیهود، بالبحث و التنقیب فی أرض فلسطین، والتی یفترض أنها موقع الجغرافیا السیاسیة للأحداث، التی تحدث التوراة عنها، بغیة تثبیت معتقداتهم و أراءهم اللاهوتیة و التاریخیة.
لکن النتائج جاءت معاکسة تماماً، لما کانوا یبحثون عنه و یأملونه، و راحت التفسیرات و التأویلات للنصوص التوراتیة، تتوزع فی کل اتجاه، إلا أن کل هذه التأویلات تهاوت بدورها، مع تقدم الاکتشافات الأثریة و الوثائق التاریخیة، التی أظهرتها الحفریات، و کادت المقولات التوراتیة تسقط عن آخرها.
یقول فراس السواح، فی مقال له بعنوان «أورشلیم فی عصر مملکة یهوذا«:
»و لکن من عجائب المفارقات أن کل هذا النشاط المحموم الذی قاده منقبون یحملون التوراة بید و معول التنقیب بالید الأخری، قد أدی أخیراً إلی عکس الغایة المنشودة منه.و بدأت حلقات الروایة التوراتیة، واحدة إثر أخری، تخرج من مجال التاریخ إلی مجال الأدب الدینی، و لم یبق من أحداث الأسفار التاریخیة فی التوراة ما یتقاطع مع علم التاریخ و علم الآثار سوی
بضعة أخبار من الهزیع الأخیر لحیاة مملکتی السامرة و یهوذا. و حتی هنا، فإن هذه الأخبار القلیلة بقیت غامضة و مشوشة و محملة بالعناصر اللاهوتیة التی تجردها من عناصر الخبر التاریخی الموثق«(1).
و لعل أهم ما جاء فی هذا المجال ما کتبه عالمان یهودیان کبیران فی علم الآثار، أحدهما إسرائیلی، و هو إسرائیل فنکلشتاین، و الآخر أمریکی، و هو نیل اشر سیلبرمان، و قد عملا ما یقارب الثلاثین سنة، فی التنقیب عن الآثار فی فلسطین، و کانت نتائج أبحاثهما سلبیة علی العموم، و کتبا کتابا أثبتا فیه زیف المقولات التوراتیة فی التاریخ، عبر ذکر النص التوراتی، ثم مقارنته مع نتائج التنقیب، و قد أثار الکتاب، الذی یسمی بالترجمة العربیة «التوراة الیهودیة مکشوفة علی حقیقتها«، أثار ضجة و استیاء عارمین فی أوساط الیهود.
1) القدس- أورشلیم العصور القدیمة بین التوراة و التاریخ، توماس تومبسون و رفیقته، ص 168.