و لکن نظریة یوحنا هذه باطلة و فاسدة بقدر ما فی النظریة الأولی «المثل» من فساد و یشیر الدکتور محمد غلاب إلی فسادها کما یلی:
أ- بأی کیفیة تتشارک المحسات فی المثل؟ أیکون المثل بتمامه فی الکائن المحس و فی هذه الحالة یکون المثال منفصلا عن نفسه و هو خلف؟ و بالتالی لایکون واحدا بل متعددا بعدد الأشیاء التی تساهم فیه مع أنه یقول بوحدته و هذا خلف أیضا؟ أو یکون المثال متجزئا أجزاءا تساوی عدد المحسات المشترکة فیه. و فی هذه الحالة یفقد بساطته مع الجزم بأنه بسیط و هذا خلف کذلک.؟ و فوق ذلک فإن المحس الجمیل مثلا بوساطة جزء من مثال الجمال هو أصغر من المثال العام للجمال فی ذاته.
ب- إذا تصور العقل مثال الکبیر فی ذاته، و تصور جمیع المحسات التی تساهم فیه فإنه ینبغی له أن یقول بمثال ثان یساهم فیه المثال الأول و جمیع المحسات التی ساهمت فیه و هذا یقتضی وجود مثال ثالث. یساهم فیه المثالان و هکذا إلی غیر نهایة«.
ج- و قد نقل الدکتور محمد البهی عن بعض مؤرخی الفلسفة قوله عن فکرة المثل هذه:
»إنها لم تراع التجارب حق رعایتها، و لهذا هی لم تشرح هذا العالم شرحا تطمئن إلیه النفس، و معنی أنها لم تراع التجارب فی شرح هذا العالم المحسوس أنها تتخطاه نفسه إلی عالم خارج عنه تفرض فیه وحدة «الحقیقة» و «الوجود» و تری أن من هذه الحقیقة و من هذا الوجود استمد هذا العالم وجوده و حقیقته، فوجود هذا مستعار و حقیقته «ظل» لتلک الحقیقة.
و یرجعون قیام»المثل» علی هذا النحو إلی تأثر أفلاطون فی فلسفته بنظریة الإیلیین فی وحدة الوجود (1) و یضم إلی هذا النقد: أن أفلاطون «فی حقیقة الأمر استخدم الخیال و الشعر فی هذه المحاولة أکثر من أن یحتکم فیها إلی العقل و دقة المنطق«(2).
و هذا النقد الذی وجه إلی نظریة أفلاطون التی جنح فیها إلی الخیال أکثر من أن یحتکم فیها إلی العقل و دقة المنطق یجعل من الصعب علی العقل أن یصدق بما جاء فی إنجیل الفلسفة.
و لایمکن أن یکون قوله فی وصف المسیح بأنه «النور الحقیقی» و «الخبز الحقیقی» و «الکرمة الحقیقیة«… إلخ لایمکن أن یکون ذلک حق علی فرض سلامة نظریة المثل-جدلا- من النقد.
و لکن النظریة أساسا کما نری بعد النقد متهاویة فی اغراقها فی الخیال و بعدها عن جادة الصواب و العقل و المنطق. فماذا بقی بعد ذلک لمؤلف الإنجیل من دعواه العریضة التی ادعاها فی المسیح؟ لایبقی له إلا أن یحمل کلامه علی محمل المبالغة و المجاز فی وصف المسیح بأنه… النور الحقیقی» إلخ کأن یقال إن الرسول بما یحمل من الهدی فی رسالته التی یدعو الناس إلیها یعتبر نورا لإخراجهم من ظلمات الکفر و البعد عن الإیمان بالله الذی هو النور الحقیقی.
أما أن یؤخذ تعبیره «النور الحقیقی» و «الخبز الحقیقی» إلخ.. علی أن حقیقة و أنه هو الله، فهذا القول مرفوض لأنه لاحقیقة له، و لاتستطیع نظریة «اللوجوس» و لا نظریة «المثل» أن تقوما مقام الدلیل. لأن المسیح بشر مخلوق، والله وحده هو الخالق الذی ینزه عن التجسد کما سبق توضیح ذلک.
و نحن لایتأتی لنا أن نصدق بشیء ترفضه عقولنا:
1- فإن العقل یرفض أن یرسل الله بشرا لعباده لیهدیهم، و یرشدهم و لیقودهم
إلی عبادة الله فیدعی أنه الله، لأن الرسل معصومون من الکذب فی التبلیغ، معاذ الله أن یختار لهذه الرسالة أفاکا أثیما.
أو أن یکون الله جاهلا بخلقه. و کلا الأمرین مرفوض. و المقبول هو أن (الله یصطفی من الملائکة رسلا و من الناس إن الله سمیع بصیر یعلم ما بین أیدیهم و ما خلفهم و إلی الله ترجع الأمور((3).
و نحن لانعتقد أن یقول المسیح ذلک بالمعنی الذی یقصده المؤلف الفیلسوف و من سار وراءه من الإفک و البهتان لادعاء الألوهیة. بل بمعنی أنه رسول من الله یحمل رسالة فیها نور و فیها غذاء روحی… إلخ. لمن اهتدی إلی الله. إن کان قد قال ذلک و العلم عند الله.
2- نحن لا نصدق بحلول الله فی جسد المسیح. لمجرد ادعاء مؤلف إنجیل الفلسفة هذه الدعوی العاریة عن الصحة المرفوضة شکلا و موضوعا لتکذیب العقل لها. و إنما نصدق بحلول واحد هو: أن الفلسفة الیونانیة قد احتلت انجیل الفلسفة، فقدمت فلسفة الیونان فی ثوب مسیحی، و ذلک لأن إنجیل الفلسفة إنتاج فلسفی لفیلسوف تقدم اسمه و هو:یوحنا الشیخ الفیلسوف اللاهوتی، و مؤلفه الذی سماه إنجیلا یعطینا هنا وصفا دقیقا واضحا لثقافته الیونانیة و بضاعته الفلسفیة.
3- أن یوحنا الشیخ الفیلسوف اللاهوتی أخذ نظریتین من الفلسفة الیونانیة: الأولی: نظریة هیراکلتوس فی «اللوجوس» التی کانت موجودة قبل أن یکتب إنجیله بأکثر من ستة قرون ونصف قرن کما کانت فی مدرسة فیلون، و لم یضف لها إلا اسم المسیح و الثانیة: هی نظریة المثل الأفلاطونیة التی قام بها أفلاطون من قبل أن یکتب یوحنا مؤلفة الذی سمی إنجیلا بنحو من أربعة قرون و نصف قرن من الزمان، و ذلک الأسلوب فی الاستعارة غریب علی مؤلفی العهد الجدید. الذی لایوجد به ما وجد بهذا المؤلف الفلسفی الغریب.
و ننتقل الآن إلی نوع آخر من أنواع الحلول أو الاحتلال و هو احتلال الوثنیة لنصوص الأناجیل الأربعة التی منها هذا الإنجیل.
1) وحدة الوجود: یقصد بها اتحاد الله بالعالم و عدم انفصاله عنه لأنه منتشر فیه مثل العقل و الجسم و لیس خارجا عنه فالله هو الطبیعة و الطبیعة هی الله.محمد البهی: الجانب الإلهی من التفکیر الإسلامی. ص 321.
2) المرجع السابق.ص 155.
3) قرآن کریم: سورة الحج آیة [75، 76].