انتذب هذا الأنجیل و ألف لمحاولة تألیه المسیح، أی للقول بألوهیته،و أنه هو الله. فبدلا من النظر إلی المسیح علی أنه بشر مخلوق یقول: بأن کل شیء به کان، و أنه لا إله غیره فبغیره لم یکن شیء مما کان..
و إنما نقول إنها محاولة «لأن نصوص هذا الإنجیل تتضافر علی القول بأن المسیح هو الإله المتجسد و هو الکلمة المتجسد بقصد أن یعرف الناس بنفسه، و أنه إنما نزل من السماء و تجسد لیصلب فداء عن خطیتهم لیخلصوا من الخطیة، فهو الإله المتجسد و الکلمة، و الفادی،و المخلص.
و تتناقض أیضا نصوصه لدرجة تدعو للتأمل و التبدر لکی یخلص العاقل منها بنتیجة معقولة لدیه- علی الأقل- إن لم تکن هی الأولی بالقبول لدی جمیع العقلاء الذین یحترمون عقولهم.
و مما یدعونا للعجب أن هذا النص جمع بین نقیضین:
هذان النقیضان هما القول بأن المسیح عبد الله و رسوله، و نقیضه القول بأنه هو الله المتجسد. و کذا القول بأن الله- الآب- أعظم- من المسیح. و نقیضه القول بأنهما متساویان. و مع ذلک فإن البعض یدرس النص دراسة مفککة الأجزاء، و یحاول التأویل، و لذلک نجد کثیرا من مفسری هذا الإنجیل یجنح الواحد منهم إلی ضروب من التأویل لم یذهب إلیها غیره الذی یخالفه.
و هذا التناقض فی نص الإنجیل الرابع قد أوقع أتباعه فی حیرة بالغة. فظهرت بینهم مذاهب کثیرة، أخذ کل منها مأخذا، فحتی بدایة القرن الرابع لم تتفق الکلمة بین الأتباع حول طبیعة المسیح: هل هو بشر؟ أم إله؟ و هل هو مساو لله؟ أم أن الله أعظم منه، حتی ظهرت الدعوة إلی عقد مجمع مسکونی (1)- عام- و عقد فی نیقیة عام
(325 م(. و قد کان عدد أعضائه 2048 و کان اجتماعهم بقصد وضع حد لهذه الإختلافات والاتفاق علی تقریر حقیقة المسیح.
»و فی هذا الاجتماع صاح عالم مصری اسمه أریوس صیحته التی کان یرددها دائما. إن الأب وحده الله، و الإبن مخلوق مصنوع، و قد کان الأب إذ لم یکن الإبن«.
أما کنیسة الإسکندریة- و الإسکندریة عریقة التأثر بالتفکیر المصری القدیم و بالفلسفة الإغریقیة و بالأفلاطونیة الحدیثة التی تقول بالتثلیث فقد قاومت آریوس و انضمت إلیها کنیسة روما، و اختلف المجتمعون، و تضاربوا و لم یستطیعوا أن یصلوا إلی قرار.
فقرر الإمبراطور أن یفصل فی الأمر بالتدابیر الشدیدة بعد أن تبنی رأی صدیقه الممثل الدینی للغرب «کاهن روما» فأصدر أمره بإخراج الرؤساء الرمانیین الموحدین و نفی الکثیرین منهم«.
»و اجتمع الأعضاء القائلون بالتثلیث، و بألوهیة و عددهم 318، فاتخذوا قرارا بذلک. و عند کتابة نص القرار اعترض أکثرهم علی عبارة المساواة بین الأب و الإبن و لکنهم خافوا أن ینزل بهم ما نزل بمعارضی التثلیث، فوضعوا إمضاءاتهم علی الوثیقة«(2).
و فیما یلی نص القرار: نؤمن بالله الواحد، والآب، مالک کل شیء و صانع ما یری، و ما لایری، و بالإبن الواحد یسوع المسیح، ابن الله الواحد، بکر الخلائق کلها الذی ولد من جوهر أبیه الذی بیده أتقنت العوالم و خلق کل شیء… إلخ (3).
و تتضافر نصوص الإنجیل الرابع لکی تحدد الهدف المطلوب من المؤلف أن یحققه و الرغبة التی کانت فی طلب أتباع الکنیسة لإنجیل یثبت لهم لاهوت المسیح و یرد علی اتجاهات المخالفین لهم.
و لکن التناقض الذی وقع بین نصوصه فی موضوع الألوهیة لم یحسم الموقف، بل جعل موضوع ألوهیة المسیح مثارا للجدل بین القبول و الرد. و لم تکن الحالة الإجتماعیة و السیاسیة من الهدوء بالقدر الذی یسمح للبت فی هذا الأمر الخطیر فی
زمن وجیز. و لم یکن لهم من الحریة القدر الذی یسمح لهم بالاجتماعات العلنیة لتدارس الموقف إلا حین یخف اضطهاد السلطات لهم. و قلیلا ما کان بعض ذلک یحدث.
و لعل هذا التناقض و أمثاله هو علة عقد هذه المجامع لتقریر طبیعة المسیح، فلو کانت النصوص نابعة من مصدر عقائدی موحد لظهرت متحدة غیر متناقضة.
و لیس التناقض بین ثنایا النص الواحد فقط هو سبب عقد المجامع. بل تناقض النصوص الکثیرة ما بین الکتب التی عرفت فیها بعد بالأسفار القانونیة و غیر القانونیة کما أسلفنا عند الحدیث عنها.
ولسائل أن یقول: ربما کان اختلاف هذین النوعین من الکتب القانونیة المقبولة مع غیرها من الأسفار الغیر مقبولة هو علة عقد هذه المجامع!!!
ولکن المتتبع الذی یعنی بدرأسة الاتجاهات الأولی فی بدایة عصر الکنیسة یجدها تتمسک بالنصوص القانونیة أکثر من غیر القانونیة و یجد بین النصوص القانونیة ما یسوغ ظهور هذه الاتجاهات لأن هذه النصوص تمکن من القول بالمذهب و نقیضه، لدرجة دفعت بعض رجال الکنیسة المصریة إلی الإعراب عن مبلغ الصعوبة فی استخلاص العقیدة من نصوص الأناجیل الحالیة و أنه یحتاج إلی إلهام لایقل عن إلهام واضع النص نفسه، و ذلک بسبب مجافاتها للعقل و تنکره لها کما قال الأب متی المسکین:
»واستخلاص العقیدة من نصوص الإنجیل عمل إلهامی لایقل عن وضع الإنجیل نفسه لأن فی کلیهما یبلغ الحق إلی مواجهة العقل«(4) أ. ه. والحق الذی یقصده: هو العقیدة و النصوص التی یواجهها العقل و یتحداها.
و نحن نری فی نصوص هذا الإنجیل الذی هو موضوع بحثنا أساسا لاتجاهات کثیرة بل نکاد نقول لو لم یکن بین یدی المختلفین إلا هذا الإنجیل لأوقع بینهم مثل هذا الاختلاف الذی حدث فی مجمع نیقیة عام (325 م(.
و لیست جزیرة الاستاذ حبیب سعید ببعیدة عن ذاکرتنا و هی التی قال عنها: إنه لو فرض علیه أن یعیش فی جزیرة نائیة و لم یسمح له إلا باصطحاب إنجیل واحد فقط
من بین الأناجیل الأربعة. فإنه یفضل إنجیل یوحنا علی الأناجیل الثلاثة لأنه یغنیه و یکفیه.
فلو تعددت هذه الحالة و وجدت جزر بها أناس فی مثل نضج صاحب الجزیرة الأولی و ألقی له بنسخة من إنجیل یوحنا و ترک مدة لاستیعابه، ثم استطلعت الأحوال بعد مدة زمنیة تکفی لدراسته و استیعابه لوجدت عجبا. فقد تری من یقول بألوهیة المسیح، و ذلک هو من یریح عقله من النظر و التدبر و تمحیص النص و هذه جزیرة التألیه أو التشبیه.
و قد نری جزیرة بصاحبها من النضج الذهنی و احترام العقل ما یجعله یری فی نصوص هذا الإنجیل الفارق بین المخلوق و الخالق فیری الله وحده أعظم من کل عبیده و رسله، و یری المسیح مخلوقا مطیعا یسجد لربه و یعبده و نسمی هذه: جزیرة التوحید أو التنزیه.
وقد نجد جزیرة ثالثة لم تصل إلی رأی قاطع فتحتاج هذه إلی من یأخذ بید صاحبها نحو إظهار الحق. فلنرجع إلی الجزیرة الأولی لنری أولئک الذین ألهوا المسیح اعتمادا علی نص إنجیل یوحنا. و ندارس معهم تلک النصوص ثم نناقشها ثم نعقب بما نری المقام فی حاجة إلیه. ثم نصدر حکمنا عملا بما ألزمنا به أنفسنا. والله وحده المستعان
السؤال الأول:
ما هی نصوص هذا الإنجیل التی یتمسک بها القائلون بألوهیة المسیح؟؟
الذین یعبدونه علی دنه «هوالله المتجسد«؟؟
الإجابة:
نصوص هذا الإنجیل التی یتمسک بها القائلون بألوهیة المسیح سبعة و عشرون نصا. تتحدث فی موضوع تألیه المسیح. مباشرة یمکن تقسیمها باعتبار موضوعها إلی قسمین تقریبا.
الأول: عن ذاته.
و الثانی: عن صفاته.
1) المجامع المسکونیة: نسبة الی المسکونة «و هی الأرض فقد کان یحضرها أعضاء من مختلف الأقطار التی یوجد بها کنائس. و کانت الکنائس ترسل مندوبیها من القسس لیحضروا هذا المؤتمرات العالمیة.
2) أحمد شلبی: المسیحیة ص 143 نقلا عن عبد الأحد داود مؤلف کتاب «الإنجیل و الصلیب» ص 20، 21 بتصرف شلبی.
3) أحمد شلبی: المسیحیة ص 144.
4) الأب متی المسکین: رسالة بیت التکریس- 20- البارکلیت الروح القدس فی حیاة الناس.