جستجو
این کادر جستجو را ببندید.

خاتمة (9)

زمان مطالعه: 4 دقیقه

کان الجانب المظلم فی التاریخ المسیحی موجوداً، و مازال مستمراً بموجب التحکم، و الإشراف علی الروحانیة، و الحریة الإنسانیة، و قد شیدت المسیحیة الأرثوذکسیة بناء، لم یشجع – منذ بدایته – الحریة، و الإدارة الذاتیة، بل الطاعة و الخضوع، و للوصول إلی هذه الغایة، کانت أیة وسیلة من الوسائل مسوغة، و أوجدت المسیحیة الأرثوذکسیة، و هی متمکنة من الاعتقاد برب واحد، مستبد بسلطته، و عقوبته، أوجدت کنیسة طلبت سلطة فردیة، و عاقبت الذین رفضوا الطاعة.

و تهاوت الحضارة و سقطت، خلال العصور الوسطی، عندما تولت الکنیسة الإشراف علی التعلیم، والعلم، والطب، و التقنیة، والفنون، و زحف الصلیبیون فی الشرق الأوسط یقتلون، و یدمرون باسم الرب المسیحی الواحد، و أسست محاکم التفتیش سابقة فی العصور الوسطی من أجل الأعمال البولیسیة المنظمة و لتعذیب المجتمع و التنکیل به، و أشعلت البروتستانتیة و الإصلاحیة الکنیسة الکاثولیکیة المضادة، الحروب، حیث ذبح المسیحیون مسیحیین آخرین، و کان کل فریق منهم یعتقد أن طریقه هو الطریق الصحیح والوحید، و سبرت محارق مطاردة السحرة أعمال الرعب، عندما استأصلت أعداداً لا تحصی من النساء و الرجال، و کذلک أیضاً الإیمان بأن الأرض مؤسسة علی الربانیة، و فی عام 1785 م کتب توماس جیفرسون یقول:

»کانت ملایین من الرجال الأبریاء، و النساء، و الأطفال، قد تعرضوا منذ تقدیم المسیحیة، للحرق، والتعذیب، والتغریم، والسجن، و مع ذلک لم نتقدم و لا إنش واحد نحو الاتساق، فما هی نتائج القسر و الإکراه؟ سوی أن تعمل النصف الأول من العالم حمقی، و النصف الآخر منافقین، و أن تؤید الخطیئة، و الخبث عبر الأرض کلها» (1).

و لربما کان التأثیر المسیحی علی العالم الحدیث هو الأکثر إغواء و غدراً، فبإخافة الناس و إرغامهم علی الاعتقاد بعدم وجود مساعدة متفوقة فی العالم المادی، خلقت المسیحیة الأرثوذکسیة محیطاً اعتقد فیه الناس أن الکون، قد تقرر من قبل، و أنه آلی، و لیس فیه إدراک، و قام الناس الآن عوضاً عن عزو مثل هذا الفهم إلی الاعتقاد الدینی، بمنح الثقة إلی العلم علی أنه قد تولی بشکل إیجابی البرهنة علی مثل هذا العالم، و وصل معظم الناس إلی درجة الاعتقاد بأن الصراع، والتحکم، والإشراف المستبد، ربما لم یکونوا قد قضی بهم إلهیاً، و لکنَّها سمات طبیعیة و ضروریة للحیاة فی مثل هذا الکون الاشخصی، و مفید أن نعرف أن العلم الذی أکد فیما مضی المفاهیم المسیحیة الأرثوذکسیة، هو الآن قد اکتشف محدودیة الرأی الآلی حول الکون.

و إن إنکار الجانب المظلم فی التاریخ المسیحی یخلد فکرة أن الظلم و الوحشیة الشنیعة، نتائج و محصلات لابد منها، لأن الشر أو الوحشیة جزء متأصل فی الطبیعة البشریة، فلقد کان هناک – خاصة فی العصر الحجری الحدیث – ثقافة سلمیة، و حضارة، عملت – علی کل حال – من دون هیاکل ظالمة من المراتب اللاهوتیة المتسلسلة، و من المؤکد أنها لیست الطبیعة البشریة هی التی جعلت الناس یؤذون بعضهم بعضاً، فالناس ذوی الثقافات الأکثر دماثة و لطفاً، شارکوا فی الطبیعة البشریة نفسها، مثلما نحن فی الحضارة الغربیة، و معتقداتنا هی التی تختلف، و قد احترمت الثقافات المعتدلة و الأکثر سلاماً کلا من الأوجه الذکریة و الأنثویة للرب، و کلا من التمثیل السمائی و الأرضی للقداسة والربانیة، و کان الاعتقاد المحدود فی قوة متفوقة واحدة، و بوجه واحد فقط للرب هو الذی جاءت محصلاته فی الطغیان و الوحشیة.

و تجاهل الجانب المظلم فی التاریخ المسیحی هو الذی یسمح للعقائد التی تثیر الوحشیة و یجعلها تمضی من دون تفحص، کما أن الاعتقاد بوجه واحد للرب الذی

یحکم من فوق ذروة المراتب اللاهوتیة المتسلسلة، قد تدعم و تمتن بوساطة الخوف الذی کان له نتائج مدمرة، و علی الناس أن یقرروا باستمرار من هو المتفوق علی من، و أصبح کل جانب یفرق بین الناس سواء فی الجنس (ذکورة أو أنوثة) أو العرق، أو الاعتقاد، أو التفضیل فی التذوق الجنسی، أو الوقع الاقتصادی – السیاسی، معیاراً، لتقدیر مرتبة فرد من الأفراد، علی أنها أعلی أو أقل من مرتبة فرد آخر، و یرتبط المعیار الذی یرفع من مرتبة شخص أو یخفضها بإنسانیة هذا الشخص، و تقدیره لشمولیة الجنس، و العرق، و عدم التعصب للفوارق.

و تم تصور الوحدة، و الفردیة داخل نمط الاعتقاد المسیحی الأرثوذکسی، علی أنه صادر عن التشابه و التطابق، و لیس عن تعاون و تواؤم الفوارق، و غالباً ما جری فهم تنوع مجتمع من المجتمعات علی أنه عائق أکثر منه مصدر قوة، و ساد اعتقاد أن المجتمع الذی یتمتع بالسلام هو المجتمع الذی فیه کل واحد هو الآخر نفسه، و فی داخل مثل هذا النمط من الاعتقاد، الذی فیه نهایة للجنس و العرق، قد أسیء فهمه لأن یعنی بکل بساطة تبدیل الأدوار، أی عوضاً عن أن یتحکم الرجال بالنساء، تتحکم بالنساء بالرجال، و عوضاً عن أن یتحکم البیض بالسود، یتحکم السود بالبیض، و لیس هناک فهم و تقدیر للسلطة المشترکة و التعاون، و التأیید.

و کان للاعتقاد بوجود رب هو سماوی بکل دقة، أو متمرکز بالسماء، و أنه منفصل عن الأرض و لا علاقة له بها، عواقب هائلة علی معاملة البشریة للمحیط الطبیعی، و مع انتشار المسیحیة الأرثوذکسیة، بترت وسائط دمج النشاط الإنسانی مع دورات المواسم و الفصول، و أصبحت أیام العطل و الأعیاد فقط لإحیاء ذکری حوادث توراتیة، و لیست طوراً من أطوار العام، و حل مفهوم التوقیت القمری محل التوقیت الدائری، و قد زاد هذا فی إبعاد الناس عن طبیعة المدّ و الجزر، و عندها أکد العلم الحدیث و أجاز المفهوم الأرثوذکسی بأن الأرض تفتقر تماماً للقداسة، و ذلک بتصویر العالم المادی علی أنه مجرد مملکة آلیة، خاویة تماماً من الإدراک.

و علی کل حال، بما أن اللحظات المظلمة فی التاریخ المسیحی قد وقعت، فإنَّ إدارکها لا یقود بالضرورة إلی رفض کلی للمسیحیة، فلقد کان هناک مسیحیون خلال التاریخ المسیحی قد قاتلوا ضد طغیان العقائد الأرثوذکسیة، و سلوکیاتها و تصرفاتها، کما کانت هناک أعداد لا تحصی من المسیحیین الذین قدروا عالیاً الحب،

و المغفرة، و آثروا ذلک علی الخوف و العقوبة، و مثل ذلک الذین شجعوا القدرة الفردیة و الفهم الذاتی، و فضلوا ذلک علی الخضوع و الإیمان الأعمی.

و لم یکن الجانب المظلم فی التاریخ المسیحی محصلة لا یمکن تجنبها للطبیعة البشریة، بل کان نتیجة البناء العقائدی و لیس سواه، و الإیمان الأعمی، و بإهمالنا لرعب التاریخ المسیحی نکون قد أهملنا انعام النظر فی المسیحیة و تضلیلنا فی عالمنا الحدیث، الذی علی ما یبدو و من دون ریب، و من دون إنعام النظر، سوف تستمر الأنماط و الأساسات المدمرة فی إبعاد الناس عن الرب، و عن المحیط الطبیعی، و عن بعضهم بعضاً.

و مع ذلک إنه بالفهم، و بالعنایة یمکن إیقاف هذه الأنماط الموذیة، و یمکننا أن ندرک أن الجهود لاقناعنا بأن الرب یطلب خوفنا و الطاعة العمیاء، هی فی الحقیقة جهود للتحکم بنا، و لاحتواء روحانیَّتنا، و یمکننا أن ندرک أن الإیمان بقوة متفوقة واحدة موجود فی جذور الشوفینیة، و العنصریة، والدکتاتوریة الاستبدادیة، و یمکننا الانتقال نحو عالم یقدر التنوع، والحریة، والکرامة الإنسانیة، و یمکننا احتضان الأمل، و النضال من أجل تحقیق حلم بأن تکون الإنسانیة حرة حتی تعمل بصورة إنسانیة.


1) Forrest G. Wood, The Arrogance of Faith (New york: Alfred A. Knopf, 1990) 27.