سبق لنا فی تحدید مفاهیم ألفاظ الله والابن و الأب أن انتهینا إلی أن ضرورة النسبة تحتم المغایرة بین ذات الإبن و بین ذات الأب.
و نقول هنا إن مفهوم «الإله الکامل» عندهم یعنی الأسرة الإلهیة المثلثة الأعضاء. بمعنی أن الأب و الابن و الروح القدس الإله الواحد.
أی هؤلاء الأعضاء الثلاثة هم الله الواحد…
و إذا کان المسیح هو الإله الکامل، بصرف النظر عن الناسوت. فمعنی ذلک أن الإله بأعضائه الثلاثة کان حالا فیه أی أن الذی حل فی جسده کان الأب و الإبن و الروح القدس.
فکیف إذن یستقیم قولهم إن المسیح ابن الله؟!! إن العقل یقضی ببطلان ذلک. ویبقی البحث عن المخرج. یقول البعض منهم: إنها أسماء لمراحل فی حیاة إلههم المثلث الفترات. فقبل التجسد کان أبا- وبالتجسد کان ابنا، و بعد القیامة کان روحا. و الألقاب مرحلیة لذات واحدة. لکنهم بحسب نصوص قوانین إیمان المجامع ابتداءا من نیقیة (325م(و ما بعده یعدون الأب إلها أصلیا، و کذلک الابن إلها من إله. و یعنون به المسیح فی تصریحهم باسمه.
فإن صح ما یتمسکون به من أنه «ابن الله» فلا وجه للقول بأنه «إله کامل» لأن الابن واحد من ثلاثة یدعوهم الله. و إن کان الذی حل فیه هو «الله الکامل» فلا وجه للقول بأنه «الابن» من الحقیقة«.
و نحن هنا نقول: إن المحال أن یکون الله المثلث قد حل فی جسد یسوع و الإله المثلث هو مجموع الثالوث. و قد نص متی علی أن الإله الکامل لم یکن حالا فی جسد یسوع فی وقت ما. یقول متی:
»فلما اعتمد یسوع صعد للوقت من الماء، و إذا السماوات قد انفتحت له فرأی روح الله نازلا مثل حمامة و آتیا علیه و صوت من السماوات قائلا: هذا هو ابنی الحبیب الذی به سررت«(1).
قال المستر جورج أسوان مؤلف کتاب «المرشد الأمین فی شرح الإنجیل المبین«:
فی شرح بشارة متی، و هو یفسر هذه الفقرة:
»هنا فی معمودیة المسیح، نری الثالوث الأقدس عاملا: فالأب یتکلم، والابن یعتمد، و الروح ینزل کحمامة«.
»أصعد یسوع بعد أن شهد الأب بصوت مسموع لیسوع بأنه ابنه الحبیب الذی سر به«(2).
فأین کان الإله الکامل من الإنسان الکامل إذن؟؟ الأب فی السماء. و الابن فی الأرض، و الروح بینهما.
لکن مؤلف الإنجیل اللاهوتی یحاول عبثا أن یجعل الابن الذی هو من الأرض إلها فی السماء، و یقول مع هذا بأن الله استحال جسداً، فکان هو جسد المسیح. و إذا کان الله یسکنه منذ تواجده بین جدر الرحم المظلمة. فمن هو ذلک الأفاق الذی انتحل شخصیة الأب و ملأ أجواز الفضاء حتی سمعه أهل الأرض یقول»هذا هو ابنی الحبیب» ولم لم یسکته الأب؟
و هناک مواقف عدیدة مشابهة. جاء بالإنجیل الرابع (3) منها: قول المعمدان یحیی بن زکریا- «إنی قد رأیت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر علیه» (4). و لم یذکر شیئاً عن الأب.
و منها أن المسیح فی موقف آخر من الإنجیل الرابع کان مضطرباً فصلی، و ناجی أباه قائلاً:
»أیها الأب نجنی من هذه الساعة، و لکن لأجل هذا أتیت إلی هذه الساعة. أیها الأب مجد اسمک. فجاء صوت من الماء مجدت، و أمجد أیضا (5)، فهذا ابن الأرض کغیره من البشر یضطرب و یحزن و یدعو ربه فیرد علیه من السماء. أین کان الإله الکامل؟؟
أکان فی الجسد مبعث النکد، أم فوق السماء معقل الرجاء؟؟
و قد أفاض ابن تیمیة رحمه الله فی بیان تناقض ما ذهب إلیه النصاری من اتحاد اللاهوت بالناسوت فی کتابه الجواب الصحیح لمن بدل دین المسیح و من هذا البیان قوله: فی أمور ذکرها.
أحدها أن یقال: «المتحد بالمسیح إما أن یکون هو الذات المتصفة بالکلام أو الکلام فقط، و إن شئت قلت: المتحد به، إما الکلام مع الذات، و إما الکلام بدون الذات، فإن کان المتحد به الکلام مع الذات کان المسیح هو الأب و هو الابن و هو الروح القدس، و کان المسیح هو الأقانیم الثلاثة.
و هذا باطل باتفاق النصاری، و سائر أهل الملل و باتفاق الکتب الإلهیة و باطل بصریح العقل کما سنذکره إن شاء الله.
و إن کان المتحد به هو الکلمة فقط فالکلمة صفة، و الصفة لاتقوم بغیر موصوفها و الصفة لیسن إلها خالقا، و المسیح عندهم إله خالق، فبطل قولهم علی التقدیرین و إن قالوا: المتحد به الموصوف بالصفة فالموصوف هو الأب، و المسیح عندهم لیس هو الأب. و إن قالوا الصفة فقط، فالصفة لاتفارق الموصوف و لاتقوم بغیر الموصوف والصفة لاتخلق و لاترزق ولیست الإله والصفة عن یمین الموصوف و المسیح عندهم صعد إلی السماء وجلس عن یمین أبیه.
و أما کونه هو الأب فقط و هو الذات المجردة عن الصفات، فهذا أشد استحالة و لیس فیهم من یقول بهذا الوجه«.
»الثانی«: أن الذات المتحدة بناسوت المسیح مع ناسوت المسیح إن کانتا بعد الاتحاد ذاتین، و هما جوهران کما کانا قبل الإتحاد. فلیس ذلک باتحاد.
و إن قیل: صار جوهرا واحدا، کما یقول من یقول منهم: إنهما صارا کالنار مع الحدیدة أو اللبن مع الماء: فهذا یستلزم استحالة کل منهما و انقلاب صفة کل منهما بل حقیقته کما استحال الماء و اللبن إذا اختلطا و النار مع الحدیدة.
و حینئذ فیلزم أن یکون اللاهوت استحال و تبدلت صفته و حقیقته. و الاستحالة لاتکون إلا بعدم شیء و وجود آخر، فیلزم عدم شیء من القدیم الواجب الوجود بنفسه. و ما وجب قدمه استحال عدمه، و ما وجب وجوده امتنع عدمه، فإن القدیم لایکون قدیما إلا لوجوبه بنفسه، أو لکونه لازما للواجب بنفسه، إذ لو لم یکن لازما له- بل کان غیر لازم له- لم یکن قدیما بقدمه، و الواجب بنفسه یمتنع عدمه، و لازمه لایعدم إلا بعدمه، فإنه یلزم انتفاء اللازم انتفاء الملزوم«(6).
1) [متی 3: 16- 17].
2) جورج أسوان: «المرشد الأمین فی شرح الإنجیل المبین» ص 400- شرح بشارة متی. ترجمة إبراهیم سعید.
3) نقصد بالإنجیل الرابع انجیل یوحنا موضوع بحثنا لأن ترتیبه الرابع بین الأناجیل الأربعة فی طبعة الأناجیل المعترف بها.
4) )یوحنا 1: 32(.
5) )یوحنا 12: 27، 28(.
6) ابن تیمیة: الجواب الصحیح ص 161، 162 ج 2.