ترکت الکنیسة المسیحیة تراثاً، و نظرة عالمیة، غطت کل جانب من جوانب المجتمع الغربی، فی کل من الناحیتین الدینیة و الدنیویة، ورعی هذا التراث: الجنس، و العرق، و عدم التسامح تجاه الفوارق، و انتهاک الأطر الطبیعیة المحیطة، و أظهرت الکنیسة و عرضت فی کثیر من تاریخها عدم تقدیر للحریة الإنسانیة، و الکرامة، و تقریر المصیر ذاتیاً، و لقد حاولت الإشراف و التحکم، و احتواء، و حبس الجانب الروحی، و العلاقة بین الفرد و الرب، و نتیجة لذلک ساعدت المسیحیة علی إیجاد مجتمع الناس فیه غرباء لیس فقط عن بعضهم بعضاً، بل عن المقدس أیضاً.
و هذه المسیحیة التی دُعیَت بالأرثوذکسیة (المسیحیة القویمة(، هی متجسدة بالإیمان بواحد ذکر، رب صاحب سلطان، یتطلب طاعة عمیاء، و هو یعاقب المتمرد من دون رحمة، و تعتقد المسیحیة القویمة بأن الخوف ضروری و أساسی من أجل تمتین ما اعتقدوه أنه نظام طبقی متدرج له السمة اللاهوتیة، فیه یحکم الرب اللاهوتی فردیاً من مکان شاهق، بعیداً جداً و ناثیاً عن الأرض و عن جمیع بنی البشر.
و فی الوقت الذی مثلت فیه المسیحیة القویمة من مجموعات کثیرة من العقائد المسیحیة، فان المسیحیین الذین أداروا دفة السلطة السیاسیة، و قاموا بتبنِّیهم لمسیحیتهم، بتقدیم الالتماس إلی الحکومة الرومانیة، فربحوا سلطة لا نظیر و لا سابق لها و مثل ذلک الامتیازات، و أصبحت کنیستهم تعرف باسم «الکنیسة» و مکنتهم السلطة التی حصلوا علیها حدیثاً من فرض الطاعة لممارساتهم، و التنکیل بالذین رفضوا الطاعة، و إنه علی کل حال طلب من الکنیسة أن توضح الذی هو عقیدتها و شریعتها و ما تؤمن به، و أن تحدد تماماً ما الذی کان هرطقة و الذی لم یکن،
و بفعلها ذلک اختارت بإصرار و استمرار العقائد و الشرائع التی أیدت إشرافها و تحکمها بالفرد و المجتمع.
و ما أن أخذت الکنیسة بزمام القیادة فی أوربا، و ما أن سقطت الامبراطوریة الرومانیة، حتی قامت هذه الکنیسة بإزالة جمیع أنواع التعلیم، و التقنیات، والعلوم، والطب، والتاریخ، والفن، والتجارة، و جمعت الکنیسة و کدست ثروات هائلة، و ذلک عندما غرق بقیة المجتمع فی العصور المظلمة، ثم عندما قامت التغییرات الاجتماعیة المثیرة بعد نهایة الألفیة الأولی بجلب نهایة إلی حقبة العزلة قاتلت الکنیسة للحفاظ علی تفوقها و سیطرتها، و حشدت حولها بازدیاد المتمردین فی المجتمع ضد الأعداء المتصورین، و أثارت الحروب ضد المسلمین، و المسیحین الشرقیین الأرثوذکس، و الیهود، و عندما أخفق الصلیبیون فی إخضاع المتمردین، صرف الکنیسة قواها و وجهتها ضد المجتمع الأوربی نفسه، حیث أقلعت بحملات وحشیة ضد جنوب فرنسا، و أقامت محاکم التفتیش.
و کان الذی فعلته الحروب الصلیبیة، لا بل حتی قرون من محاکم التفتیش قلیلاً فی تعلیم الناس فهماً صحیحاً للمسیحیة القویمة، و الذی فعل هو حرکة الإصلاح الکنسی المضادة و أنجزته، ففقط خلال الإصلاح الکنسی تعلم سکان أوربا و تبنوا أکثر من القشرة الزائفة للدیانة و التصور العام أن العالم المادی کان متجسداً مع حضور الرب، و مع السحر حل محله خلال الإصلاح الکنسی، اعتقاد جدید هو أن المساعدة اللاهوتیة لم تعد ممکنة، و أن العالم المادی عائد فقط إلی الشیطان، و لقد کانت هناک ثلاثمائة سنة من الإحراق بالنار مورست ضد من تجرأ علی الاعتقاد بوجود مساعدة لاهوتیة، و أخیراً ضمن السحر عملیة تحویل أوربا إلی المسیحیة القویمة.
و بإقناع الناس بأن الرب یعیش منفصلاً عن العالم المادی، أرست المسیحیة – ربما بدون فهم – الأساس للعالم الحدیث، و هو عالم یعتقد أنه آلی، و غیر محکوم بقدر، عالم الرب فیه بعیداً جداً، و هو خالق غیر متجسد، و صار الناس یعزون
مشاعر عجزهم لیس إلی طبیعتهم الإنسانیة المذنبة بقدر عزوه إلی عدم أهمیتهم فی مثل هذا العالم، و متنت نظریات العلماء و الفلاسفة مثل: اسحق نیوتن، ورینه دیسکارت Rene Descartes، و شارل داروین، عقائد المسیحیة القویمة، مثل الاعتقاد بحتمیة الصراع و ضرورته من أجل التحکم و السیطرة، و تبرهن الآن أن مثل هذه العقائد – علی کل حال – لیس فیها فقط معیقات جادة و جذب إلی الوراء، بل إنها أیضاً علمیاً محدودة.
و کان للمسیحیة القویمة أیضاً أثرها المدمر علی العلاقة البشریة بالطبیعة، فعندما بدأ الناس یعتقدون بأن الرب أقصی عن العالم المادی و هو مزدر له، فقدوا احترامهم للطبیعة، و أیام العطل التی ساعدت الناس علی دمج المواسم و الفصول فی حیاتهم، تبدلت إلی إحیاء ذکریات و قورة لحوادث توراتیة لا علاقة لها بدورات الأرض و تبدل مفهوم تصور الوقت، و لم یعد أبداً مرتبطاً بدوران الفصول، و ظهر علم نیوتن و هو یؤکد أن الأرض لم تکن سوی نتیجة حتمیة للعملیة الآلیة لصراعات لاواعیة، و قد أکد هذا أن الأرض تعوزها القداسة.
و یمکن للجانب المظلم من التاریخ المسیحی أن یساعدَنا علی فهم فصم ارتباطنا بالمقدس، و یمکن أن یعلمنا حول العبودیة الأکثر غدراً و تدمیراً: السیطرة علی الناس من خلال الإملاء و کبح روحانیّتهم، و یمکن لهذا الجانب المجهور من التاریخ أن ینیر الأفکار و العقائد التی رعت تشویه الحقوق الإنسانیة، و عدم التسامح مع الفوارق، و انتهاک قدسیة المحیط الطبیعی، و ما أن ندرک هذا حتی یمکننا منع مثل هذه العقائد من الاستمرار فی إحداث مثل هذا الدمار مرة ثانیة، و عندما نفهم کیف حدث و فصلنا عن المقدس، یمکننا أن نشرع لیس فقط فی معالجة ندوب الجراحات، بل الشفاء من الغربة نفسها أیضاً، و المعافاة منها.