إلا أن ما یبعث علی الاهتمام المشوب بالاستغراب أن التوراة المتداولة، خصوصا الأسفار الخمسة الأولی، لا تشتمل علی أی نص یدل علی مسألة
البعث و الحساب، و هذا ما دعا طائفة من الیهود، و هم الصدوقیون، إلی إنکارها من الأساس، مستندین فی هذا الإنکار إلی خلو التوراة من أیة إشارة إلی قیامة الموتی.
و قد جرت الکثیر من الحوارات و الجدالات بینهم و بین طائفة الفریسیین، الذی یؤمنون بالمعاد و الحساب، و تبدو من بعض الحوارات التی أوردها الدکتور کوهن أن الصدوقیین کانوا یفحمون خصومهم فی هذه المسألة.(1).
هذا ما یذکره الباحثون الیهود و المسیحیون حول المسألة، إلا أننا عالجنا هذه المسألة بشکل مفصل، فی مقالة مستقلة بعنوان «الحیاة الأخری فی نصوص أهل الکتاب«، و أثبتنا فیها عدم صحة هذه الإدعاء، و ان الصدوقیین هم الذین سلطوا الضوء علی الحیاة الآخرة، و أنهم من أشد الناس إیمانا بها، و قد ظهر ذلک جلیا فی مخطوطات قمران، و التی ظلت مخفیة حتی أوسط القرن العشرین.
و السؤال الذی یطرح نفسه فی المقام:
ما هو المستند الذی اعتمده الفریسیون، و عامة الیهود من ورائهم، فی الاعتقاد بالحیاة بعد الموت و الثواب و العقاب، خصوصا بعد زوال طائفة الصدوقیین عن صفحة الوجود؟.
إن هذه الإشکالیة تعیدنا إلی مسألة کتابة الکتاب المقدس، و اختیار النصوص المعتبرة منه، فقد کشفت حفریات وادی قمران عن مخطوطات هامة ترجع إلی ما بین القرن الثانی قبل المیلاد و القرن المیلادی الأول، و فیها عدة نسخ للعهد القدیم، و بعضها یرجع إلی القرن الثالث قبل المیلاد، حسب قاموس الکتاب المقدس ص 844 إضافة إلی بعض الأسفار الأخری، التی لم یعترف بها علی أنها جزء من القانون الکتابی، و إن کان بولس و غیره قد استشهدوا بنصوص مقدسة، لم توجد إلا فی الأسفار القانونیة للکتاب المقدس.
لقد اشتملت هذه المخطوطات فی مختلف أسفارها علی کثیر من النصوص الصریحة فی إثبات الحیاة بعد الموت، و الحساب، و الثواب و العقاب، و منها سفر اسمه سفر التکوین.
و یبدو أن هذه الأسفار هی الأساس فی اعتقاد الیهود بالمعاد و الیوم الآخر، و إن ضاعت قرونا متطاولة، حتی نسی الناس أمرها، إلی أن اکتشفت هذه المخطوطات سنة 1947 و أماطت اللثام عن الکثیر من الحقائق المخفیة، و التی تزیف إدعاء الیهود و المسیحیین بأن الصدوقیین لا یؤمنون بالبعث، کما تقدم.
1) التلمود، آ. کوهن، ترجمة سلیم طنوس، دار الخیال، بیروت، ط1، 2005، ص 443و ما بعدها.