اعلم: أن سائر النصاری مجمعون علی الثالوث. و هو أن ربهم أب وابن و روح. فیعبرون بالأب عن الذات، و بالابن عن النطق الذی هو الکلام، و بالروح عن الحیاة. و یزعمون أنه لا یصح التوحید لموحد دون أن یعتقد هذا. فزعموا أن الأب جوهر و أن له صفة حیاة و صفة نطق. قالوا: فلا یکون الإله فاعلا حکیما إلا بعد کونه حیا ناطقا. فإذا وجب أن یکون الإله حیا ناطقا. فهل الحیاة ذوات أو صفات؟ اختلف فیه أکابرهم. فمنهم من قال: الحیاة والنطق صفات لجوهر الأب، و منهم من قال: بل هی ذوات بأنفسها، و منهم من قال: بل هی خواص لذلک الجوهر.
و طریق مفاوضتهم فی ذلک: أن نقول لهم: هل تثبتون الألوهیة لکل واحد من الأقانیم الثلاثة أو تزعمون أن الجمیع إله واحد، أو تقولون إن الإله واحد منها والباقی صفات له؟ فإن قلتم: بأن الإله واحد والزائد صفات له؛ أبطلتم القول بالثالوث و وافقتمونا علی قولنا: إن الإله واحد، و له صفات من العلم والقدرة والإرادة والحیاة والسمع والبصر والکلام، و إن شیئا من هذه الصفات لیست إلها و إنما ذات موصوفة بهذه الصفات، و فارقتم حینئذ مشایخ الأمانة إذ یقولون: إن الأب إله واحد، و إن أیشوع إله واحد (1)، و إن الروح القدس إله ثالث. و أفسدتم صلواتکم حیث تقرأون فیها: «الملائکة یمجدونک، وابنک نظیرک فی الابتداء، و روح القدس مساویک فی الکرامة«.
و إن زعمتم: أن الجمیع إله واحد و أن واحدا من الثلاثة لیس إلها علی انفراده؛ فقد ترکتم القول بالتثلیث و عبدتم إلها واحدا مترکبا من ثلاثة أقانیم. و هذا ترک لما انطوت علیه الأمانة فی أن کل واحد من الآب والابن والروح القدس إله مستق بالألوهیة، و هدم لأصل النصرانیة. إذ لا خلاف بینهم أن اللاهوت اتحد بالناسوت.
و إذا کان الإله عبارة عن الثلاثة الآب والابن والروح. فالآب والروح ما
اتحدا بالناسوت أصلا، و إنما اتحد به الابن الذی هو العلم أو النطق. فإذا ما اتحد الإله بل أحد الأقانیم الثلاثة، و ذلک علی تجرده لا یسمی إلها. و فی الأمانة: أن المسیح إله حق، و أنه أتقن العوالم بیده، و خلق کل شیء، و أنه نزل من السماء لخلاص الناس. و ذلک مما یبطل هذا الأقنوم. لأن الذی نزل إنما هو فی زعمکم أقنوم الابن. فإذا کان الإله هو مجموع الثلاثة؛ بطل أن یکون الابن هو خالق الأشیاء و متقن العوالم و مخلص الناس؛ إذ لا یوصف بذلک إلا الإله الذی هو مجموع الثلاثة الأقانیم. و هی الأب والابن والروح القدس.
و إن زعموا: أن کل واحد من الثلاثة الأقانیم؛ إله، و مجموعها إله واحد. قلنا لهم: أتزعمون أن کل واحد من الثلاثة إله حقیقة أو علی سبیل التجوز والتوسع و أن الإله الحقیقی هو مجموع الثلاثة؟ فإن قالوا بهذا و صرفوه إلی مجرد التسمیة دون الحقیقة؛ ترکوا القول بالثالوث و أثبتوا إلها واحدا، له صفات، ثم سموا صفاته آلهة، تحکما و تخرصا بغیر توقیف و لا دلالة، و هدموا قول الأمانة: إن المسیح إله حق. و قالوا: بل هو إله؛ تجوزا، و أبطلوا عبادة المسیح حیث یقرأون فی صلاتهم: تعالوا نسجد، تعالوا نتضرع للمسیح إلهنا. وردوا قول مشایخ الأمانة إذ یقولون: المسیح إله حق، و إنه أتقن العوالم و خلق کل شیء بیده؛ لأن الذی أتقن العوالم هو الإله بالحقیقة لا إله بالتسمیة والتجوز. و هذا الإله الحقیقی لم یتحد بجسد المسیح، بل ما اتحد به إلا واحد، و یسمی علی سبیل التجوز والاستعارة.
و إن زعموا: أن کل واحد من الثلاثة الأقانیم؛ إله کامل علی الحقیقة. إذا أفردوا، و أن الجمیع إله واحد علی الحقیقة إذ جمعوا. و بهذا القول یقولون. فهذا فی الدرجة العلیا من الفساد والتهافت. و ذلک أنا نقول لهم: أیجوز خلو الإله عن الحیاة والعلم؟ فإن جوزوا ذلک. قیل لهم: فإذا لا حاجة إلی الأقانیم: إذ الإله مستغن عنها.
و إن قالوا: لابد للإله من أن یکون حیا عالما. فیقال لهم: إذ قلتم: إن کل واحد من الأقانیم تسعة؛ فیصیر التثلیث تتسیعا. إذ حیاة کل واحد من الأقانیم
الثلاثة و علمه أقنومان له، ثم کل واحد من التسع الأقانیم إله حقیقة، و إنما یصیر إلها حقیقة إذا ثبت وجوده و حیاته و علمه، إذ لا یجوز خلو الإله عن الحیاة والعلم، و حینئذ یتسلسل القول إلی إثبات آلهة لا نهایة لها.
و هذا یلزم من یقول: إن کل واحد من الأقانیم الثلاثة له حیاة و علم.
و إن قالوا: لا یثبت هذا الوصف إلا لواحد منها؛ امتنع علیهم وصف الثانی والثالث بالألوهیة حقیقة. لما تقرر: أن الإله یجب أن یکون حیا عالما، و بطل علیهم القول بالثالوث علی کل الوجوه.
والله أعلم و أحکم.
1) فی الأصل: و إن الأب أیسوع إله واحد.